قصص الشهداء

الثلاثاء - 18 سبتمبر 2018 - الساعة 07:37 م بتوقيت اليمن ،،،

«الوطن العدنية»كتب/فكرية شحرة

يختطفون كل شيء حتى جثث الشهداء . صرخ "يونس" بغضب وهو يرى الرصاص يترصد أي محاولة لانتشال جثث الشهداء الذين سقطوا في معركة اليوم . لكنه في قرارة نفسه لن يترك جثمان رفيقه صويلح أبدا ولا أي جثمان ستصل إليه مقدرته على المجازفة والمراوغة في انتشال أجسادهم الطاهرة . كان يغامر بروحه في إصرار لكن مراسم الدفن المهيبة لجثمان صديقه كانت تستحق تلك المجازفة . يؤلمه كثيرا ألا تجد جثامين رفاق الكفاح حقها من الإكرام بإعادتها إلى حضن الأرض التي وهبوا أرواحهم من أجلها . طبعه الدؤوب في إتقان كل عمل يقوم به خلال مسيرة حياته منذ كان طالبا يردد النشيد الوطني في طابور الصباح بكل حب وانتماء لكلماته الخالدة؛ مرورا بإجادته لتلاوة القرآن واحتكار صوته الجميل للآذان حيث كان؛ وانتهاء بعمله في محل لأشغال الألمنيوم في صنعاء . انخراطه في ثورة 11 فبراير بكامل روحه النضالية جعله يترك صنعاء خلف ظهره متوجها إلى مأرب بعد استيلاء الحوثيين على كامل العاصمة . وهناك انضم لمعسكرات الجمهورية على أمل استعادة الحلم الذي تبدد .. قاتل على أرض مأرب ورأى دماء رفاقه تسقي أرضها الملتهبة ببسالة الشجعان. وحين انتفضت "بعدان" مسقط رأسه بقيادة الشيخ "نايف الجماعي" عاد إليها مدافعا فهناك الأرض والحب وقلب الوطن النابض بالنسبة إليه . تنقل مقاتلا بين جبهة قعطبة وجبهة بعدان وحين أرتقى القائد "نايف الجماعي" شهيدا بكاه دماً وعزم الرحيل قائلا لأهله : _ لا أخون العهد والوعد للشيخ نايف؛ كيف نبقى بأرض لا نستطيع فيها حتى رفع صور شهيدنا؛ هذا والله قمة الذل و والله لن أعود حتى نرفع راية النصر وصور شهدائنا عاليا فوق الرؤوس أو ألحق بهم شهيدا . ترك زوجته وأطفاله وانتزع موافقة والديه بشق النفس فقد كان بقائه أشد وجعا من رحيله . عامان يمران في مأرب ترتفع فيه كلفة الحرب من دماء الشباب الأوفياء؛ يرى بعينيه ألف "نايف" يرتقون من أجل حلم صار أبعد كلما رصفت طريقه بأرواح الشهداء . وأتى دوره ليصاب إصابة خطيرة في إحدى المواجهات؛ كانت اصابته في جانبه الأيمن حتى اخترقت الأمعاء نزف خلالها دماء كثيرة وأسعف إلى المشفى بلا أمل في نجاته . قدم أخوه لزيارته محاولا نقله إلى المملكة للعلاج لكنه رفض رفضا قاطعا قائلا : _ لماذا أنا فقط ؟! وبقية زملائي الجرحى الذين إصاباتهم أشد؛ أفضل أن الاقي ذات مصيرهم وبجوارهم . بعد أن تعافى فكر بالعودة إلى الجبهة لكنه اشتاق إلى زوجته وأطفاله بعد عامين من الافتراق فسافر إلى قعطبة لملاقاتهم . ولم يستمر به الوقت سوى أيام حتى علم باستشهاد رفيقه "أحمد العماري" وقريبه "معاذ شهبين" فعاد إلى مأرب بكل الألم المكبوت في قلبه . توجه من فوره إلى جبهة القتال ليقود سرية من الشباب ضمن كتيبة أطلق عليها اسم "حسم" توغلت في دحر الحوثيين من مواقع مهمة كان المقاتلين قد سوروا أبرزها بحفر الخنادق . ولمدة شهر كامل ظلوا يصدون محاولات مليشيا الحوثي لاستعادته . ويتكرر ذات المشهد المؤلم مستفزا مشاعر "يونس" حين يسقط أحد الشباب شهيدا في مكان مكشوف خارج المترس وزخات الرصاص تمنع الوصول إلى جثمانه . لخمسة أيام لم يذق فيها يونس طعم الراحة وجثمان رفيقه هناك ملقى في عراء الجبال؛ فقرر انتشاله رغم معارضة رفاقه بتعريض نفسه لرصاص القنص والضرب المتواصل . غادر المترس وغاب لفترة بدت عمرا ليعود وعلى ظهره جثمان الشهيد متهلل الوجه فقد قام بما ينبغي له من إكرام هذا البطل . كافئه يومها قائد الكتيبة فوزع المكافأة بين رفاقه قائلا : _هذا واجبي ومن حق الشهيد الذي بذل روحه من أجل هذه الأرض أن يدفن فيها مكرما معززا. وفي أحدى المواجهات نصب الحوثيون كمينا لكتيبتهم استشهد فيه قائد الكتيبة الذي التقى بعائلته منذ فترة قصيرة بعد فراق طويل؛ ولم يمنحه القدر وقتا أطول كي ينعم بقربهم بعد وصولهم إلى مأرب للاستقرار هناك . يومها توجه يونس مع سريته إلى مقدمة الهجوم واشتدت المواجهة وجرح أحد المقاتلين؛ تقدم يونس أكثر وتوغل في منطقة مكشوفة وهو يصيح بمن بعده أن يلحقوا به. عجز المقاتلين عن اللحاق به لشدة الضرب فعزل يونس ومن معه عن المجموعة وهناك كانت المواجهة على مسافة صفر . طالبه أحد أفراد المليشيا صارخا : سلم نفسك يا داعشي . فرد يونس : كذبت والله ما نسلم أو نستسلم . استمر أطلاق الرصاص طوال الليل حتى أصيب يونس في مقتل وارتقت روحه الطاهرة فجر الجمعة 3/11/2017 .. فيما استطاع الآخران الانسحاب بصعوبة شديدة والاختفاء حتى مغرب اليوم التالي دون أن يتمكنا من انتشال جثمانه أو حتى التفكير بذلك لاستحالة الأمر دون قتلهما . هناك أسند يونس شهبين ظهره إلى الجبل وهو يدرك أن الجبال تعانق الجبال كما تحتضن الأرض أبنائها الأبطال . وحتى هذه التاريخ ما زال جسد الشهيد البطل "يونس شهبين" متكئا إلى قمم جبال "نهم" ينتظر النصر أن يبلغه وينتشل الوطن من يأس الانتظار.