مقالات وكتابات


الخميس - 03 أكتوبر 2019 - الساعة 07:24 م

كُتب بواسطة : د. جلال الفضلي - ارشيف الكاتب



هذا مقال كتبته الأنامل عن عدن مذ مدة قديمة، لكن قلت: لعل الأيام القادمة فيها ما يسر، ولعل هناك من يخلص هذه المسكينة مما هي فيه، لكن رأيت الأسوأ بعد كل سيء.


سرت هائما في بعض الليالي فساقني قدر الله للوقوف على منظر تمنت عيناي أن لم ترياه، وحرصت على نسيان مشاهده، فقد نُحتت في العقل صورته، فأبى طردها وإخراجها، وما ينسيه إياها إلا سلوة البال برؤية مشهد سعيد في مكانه.

رأيت امرأة طويلة القامة، تساوم النخلة في كبريائها، وأنفتها تعانق السماء، شامخة الرأس، ورأيت ثعابين سوداء ذات السموم القاتلة ملتفة حول جسدها الرشيق، تكسر عظامه، وتنهش منه بشراهة ولؤم، وتنشر السم في الدم، وكأنها تسابق الزمن، وتلدغ لدغة المنتقم، تحاول أن ترميها على الأرض؛ لتأخذ راحتها في الالتهام.
ورأيت أطفالها حولها يبكون، ومن رعب الأفاعي بها يلوذون، وببعض جسدها الحنون ملتصقين، وإلى المنية سائرين، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر.
ولسان حالها يقول:
أتاني لعلي عنه أكشف كربة ولم يدر أني في الكروب حبيس!
ورأيت أناسا ظننت أنهم لها مغيثون، و من شر الأفاعي مخلصون، فإذا بهم للأفاعي مساندين، ولركوع المسكينة حريصين، ولأجل ذلك ركبها يضربون، لكن كبرياءها منعها من السقوط والانحناء.
وقفت دمائي لهول ما أرى، وصعقني أصوات قرع أنياب الأفاعي جسد المسكينة، وأصوات تكسر عظامها، وعويل أبنائها، ونحيبهم.

اقتربت من القوم سائلا: ما لكم على هذه المسكينة، وما جرمها حتى تعاقب من قبل هذه الثعابين التي لا تملك ذرة رحمة، ومن أنتم؟
قالوا: وما شأنك أيها الفضولي؟
قلت: حالها لا يدع للسان أن يسكت، فحالها يبكي العروس في ليلة عرسه، فهلا تفضلتم علي بالجواب؟
قالوا نحن أبناؤها، وأولياء أمرها!
قلت: أبناؤها!!!
أولياء أمرها !!!
ولم فعلتم بها هذا؟
قالوا: لدغتها أفعى، فأردنا علاجها بترياق هذه الثعابين الطيبة!
قلت لهم: هل تعون ما تقولون؟ أي علاج أيها السادة، وهو الموت أراه في عينيها، والسم قد أحرق جسدها!
كنتم كمن أدخل في جحر يدا ... فأخطأ الأفعى ولاقى الأسودا.
قالوا: أيها الساذج، أما تدري أن الدواء مر، وأن إبرة الطبيب تؤلم وفيها الشفاء، وترياق الأفاعي لها فيه الشفاء والعافية، فماهي إلا مدة يسيرة، وتكون على أفضل حال.
قلت: الترياق لا يكون بهذه الطريقة، وهذه الأفاعي لا ترقي، بل تقتل وتنهش، وأصحاب الترياق يرقون بثعبان تحت تصرفهم، لا يرمون الأفاعي تنهش ما تشاء، وكيف تشاء، ومذ متى كانت الأفاعي ترحم، وتعطف، وقد كانت العرب تقول للمسيء: «أظلم من حيّة» لأن الحيّة لا تتّخذ لنفسها بيتا. وكل بيت قصدت نحوه هرب أهله منه. وأخلوه لها.

فقهقه القوم من هذا الكلام وقالوا: أما تعلم قول الفارابي بأن وصف الموضوع على أفراده يصدق على الممكن، فيصدق أن نقول: الأفاعي طيبة، ورحيمة! حيث إن ذلك في حيز الممكن وغير المستحيل، وهذا هو واقع هذه الثعابين، فإننا نعرفها بالرحمة واللطف، والإغاثة، والنجدة، وأتت لتنقذ هذه المسكينة من لدغة الحية الخبيثة!
قلت مهلا أيها المتفلسفون: وما فهمتموه من كلام الفارابي، يخالفه النظار وعلى رأسهم الحكيم ابن سينا، حيث قالوا: إن صدق وصف الموضوع على أفراده يصدق بالفعل لا بالإمكان.
وهذه الأفاعي توصف بالخبث والمكر واللؤم والجرم؛ وفعلها يدل على ذلك، أما إمكان كونها رحيمة، وكون الحجر ذهبا "على مذهب الفارابي" فهذا – الإمكان- يكذبه الفعل الموجود. فلا يصح أن نقول للأبيض أسود.
ثم أي رحمة تزعمونها لهذه الثعابين وهي تنهش بلا رحمة، وتبث سمها في جسد المسكينة بلا شفقة.
أي رحمة تزعمونها وأنتم ترون الدماء تسيل من جسد هذه المسكينة! وقد أصبحت ملامح وجهها فيها مطموسة، وأنياب الخبث فيها مغروسة.
أي رحمة تزعمونها وهاهم أبناؤها بها يلوذون، وهم بجرم الأفاعي مصروعون، بين قتيل ومجروح بدن أو قلب.
ثم، لم تختاروا إلا الأفاعي السوداء التي قال فيها الجاحظ: "وأمّا الأسود فإنّه يحقد ويطالب، ويكمن في المتاع حتى يدرك بطائلته. وله زمان يقتل فيه كلّ شيء نهشه".

أين عقولكم أيها الناس؟ تركتم الحقيقة واعتمدتم على الوهم، والسراب! هل خدرتها تلك الأفاعي؟
قالوا: أبعد عنا أيها الجاهل، وعد لورقتك وقلمك، فلست أحرص منا على حبها، ونحن أهل العقل والحكمة، وأهل الدربة، والرؤية الصائبة، وستحكم الأيام بيننا!
سرت لحالي وقلبي يتقطع مما رأيت، وصوت أنين المسكينة وعويل أبنائها قد أستوطن سمعي فأصبح كل صوت أسمعه، وأقول في نفسي كيف يطعن الابن قلب أمه، كيف يدنس الإنسان عرضه، كيف كيف، لا أصدق ما أرى، هل أنا في حقيقة أم خيال؟.