أخبار محلية

الخميس - 24 ديسمبر 2020 - الساعة 10:12 م بتوقيت اليمن ،،،

الوطن العدنية /قناة بلقيس - هشام سرحان


بعد أكثر من ألف ومائتي ساعة طيران قضاها الطيار الثلاثيني، مهدي العيدروس، في أجواء اليمن، محلقاً بطائرات نقل عسكرية وحربية، بينها طائرة "ميج 21"، امتدت مأساته من السماء إلى الأرض، فالحرب الدائرة في البلاد منذ العام 2015 حوّلته إلى عامل ينقل الأحجار والأحمال الثقيلة، في إحدى قرى "بني حماد" بمحافظة تعز، وسلبت منه وظيفته وراتبه وحُرية التحليق، وفاقمت معاناته، كما تسببت في تدهور أوضاعه المادية والمعيشية والإنسانية، وراكمت ديونه، وأجبرته على الانتقال من صنعاء إلى مسقط رأسه في عزلة "المواسط"، ليتجرّع العوز ومرارة العيش وقسوة الظروف. 

ينهض العيدروس باكراً، فيتأمل في وجه أطفاله، فتعترية الحسرة والألم، ويتوجّه نحو عمله الجديد، والبعيد عن حلمه وطموحاته، وهناك يعمل طوال النهار تحت أشعة الشمس الحارقة، لكن بؤس أطفاله وملامحهم المنهكة وحاجتهم الشديدة للقمة العيش لا تغيب عن باله، كما تبعث في نفسه القوة والعزيمة على تحمل مشقة العمل، لتأمين القوت الضروري لهم.

وبين الأمس واليوم، يتوه به التفكير في الوضع الذي آل إليه، وأضحى عاملاً بالأجر اليومي، بعد أن كان في سماوات البلاد طياراً يعانق السحاب، ويرتفع كل يوم قرابة 40 ألف قدم، مبتعداً عن صخب الشوارع وضجيج الناس ومشاكلهم. 

 بين السماء والأرض

يستذكر العيدروس بعض التفاصيل الدقيقة لمهنته القديمة، وكيف كان يعود مبتسماً إلى أسرته، ويحكي لها كيف كان يرى الأرض من الأعلى، لكنه اليوم لم يعد يملك في جعبته شيئاً ليرويه لأطفاله، الذين فقدوا الشغف بقصص السماء، وتراجع مستوى أحلامهم، كما اقتصر على ما في يد والدهم من وجبات غذائية متواضعة لسد رمقهم. 

تخرج العيدروس العام 2003 من كلية الطيران برتبة "ملازم ثاني طيار"، وحصد الترتيب الثامن بين زملائه، الأمر الذي عزز من قيمته ومكانته، وأهّله لأن يكون طياراً وقائداً للمقاتلة الروسية "ميغ 21".

كان العيدروس قد بدأ مشواره المهني في القاعدة الجوية بالحديدة، وتقلّد عدة مناصب، كما تنقل في غضون 13 عاماً بين عدة قواعد ومطارات، بينها: قاعدة "العند" في لحج، وقاعدة "الديلمي" الجوية في صنعاء، والتي تعد آخر محطاته التي تعرّضت لقصف عنيف من قبل التحالف العربي بقيادة السعودية، وذلك منذ انطلاق "عاصفة الحزم"، أواخر مارس العام 2015، ما جعله يلج في مرحلة جديدة انحرفت فيها بوصلته بشكل كبير، لم يكن يتوقعه.

وتكالبت مؤخراً، على الرائد الطيار الهموم، وأثقلت كاهله متطلبات أسرته، وتراكمت عليه إيجارات السكن، فقرر العودة إلى قريته، وهناك عمل في "حمل الأحجار"، والتي وجدها أهون عليه من المواجع، ومتطلبات العيش، وثقل المسؤولية التي وضعته فيها الحرب، والتي قذفت به مع الكثير من زملائه خارج قاعدة "الديلمي".. ويقول لموقع "بلقيس": "تعرضت القواعد العسكرية الجوية للقصف، وتدمير محتوياتها ومنظومات الدفاع الجوي، ففقدنا أعمالنا، ومن ثم انقطعت رواتبنا".

العودة إلى السماء

وتفاقمت معاناته، فشرع في البحث عن عمل، علّه يستطيع توفير متطلبات الحياة، ويواجه مصاريفه ونفقات أسرته، فعمل في محلات مواد غذائية، وملابس، ومراكز تجارية، ومكتبات، وتدهورت أوضاعه مع عائلته بشكل كبير، زادت معها مضايقات مالك الشقة، ما دفعه إلى ترك العاصمة صنعاء، والانتقال إلى قريته والتي يكتوي فيها بنار عذاباته وأنينه، وتفصح بشرته السمراء وملامح وجهه عن رجل خبر الأرض والجو، وترسخت جغرافيا ومناطق البلاد المختلفة في نفسه. 

يعيش العشرات من زملائه في القوات الجوية ظروفاً معيشية بالغة السوء والقسوة، وقد أجبرتهم الأوضاع الراهنة على بيع مدخراتهم وممتلكاتهم من أجل توفير لقمة العيش، كما دفعتهم إلى مربع التشرد والحرمان وشظف العيش، ووصل بهم الحال إلى بيع أثاث منازلهم والانتقال إلى السكن في قراهم، وتوقف أولادهم عن التعليم، والوقوع في ظروف قاسية ومشاكل أسرية، إذ أقدم البعض منهم على طلاق زوجته، فيما هجر آخرون زوجاتهم وأطفالهم، وغادروا البلاد، وقطعوا الاتصال بأهلهم وذويهم. 

ويتحسر العيدروس على وضعه وضياع وطنه وأحلامه، والتدمير الذي تعرّضت له القوات الجوية، ويعرج على موضوع إهمال وتهميش كوادرها بشكل ممنهج وتدمير الطائرات وإزاحة الطيارين عن واجهة المشهد، منذ أواخر العام 2014.

هو الآن يحلم في العودة إلى السماء والتحليق فيها، لكن ذلك لم يعد ممكناً بعد أن أصبحت الأرض مكانا للطيار العيدروس، والذي يستعرض جزءا من ماضيه، والمهام المتنوعة التي خاضها، رغم مخاطر بعضها، والطيران بطائرات منتهية الصلاحية، ليتوقف عند حاضره المأساوي.. يقول: "صرت أربط على بطني من الجوع، بعد أن كنت أربط بقاع اليمن ومناطقه المختلفة".

 أحلام مركونة

ويركن، اليوم، حلمه وماضيه وشهاداته التقديرية على جدار أصمّ، لم يتسع لها لكثرتها.

كما يودّع ثقافته واطلاعه الواسع ورؤاه ومواقفه السياسية من النظام السابق، وحرصه على استقلالية الجيش وبنائه بشكل صحيح، وهو ما دفع ثمنه وتعرّض مراراً للسجن، وقاده ذلك إلى الانضمام لثورة 11 فبراير العام 2011، وخطط حينها للانقلاب على قائد القوات الجوية، محمد صالح الأحمر، كما ثار ضده مع مجموعة من زملائه، ما عرّضه لمحاولتي اغتيال، ومن ثم إقالته من إدارة المركز الإعلامي العام 2014، وإحالته إلى التحقيق، لنشره معلومات تتعلق بصفقات مشبوهة، خاصة بقطع غيار الطائرات. 

وتدهورت حالته النفسية وصحته، وضعف نظره جراء مأساته ووضعه المعيشي الصعب، الذي آل إليه، وأصبح عاجزاً عن توفير قيمة العلاج، وإجراء الفحوصات اللازمة، والتي تبيّن منها وجود بكتيريا في الغدد الصماء، وكادت تتلف العصب البصري، لولا اكتشافها في مرحلة مبكرة، فضلاً عن الإيفاء بالتزاماته تجاه أسرته.