مقالات وكتابات


الأربعاء - 27 ديسمبر 2017 - الساعة 01:35 ص

كُتب بواسطة : د. قاسم المحبشي - ارشيف الكاتب


ونحن على مرمى حجر من موعد الندوة العلمية التي يقوم بتنظيمها مركز عدن للدراسات التاريخية والبحوث والنشر والتوثيق صباح بعد غدا الخميس في فندق كورال قاعة شبام بخور مكسر، تحت عنوان ( محمد علي باشراحيل مسيرته الوطنية والصحفية ٢٠١٧/١٢/٢٨م). تداعت الى ذهني بعض الخواطر التي طالما وألحت عليّ منذ زمن طويلا، بشأن الأشخاص والمؤسسات، إذ دئبت على ترديد العبارة التالية- بمناسبة وغير مناسبة- وهي: الأشخاص يأتون ويذهبون، بينما المؤسسات وحدها التي يمكنها أن تدوم إذا وجدت من يتعهدها بالحفظ والحماية والصون . ونحن الذين نقوم بتشكّيل مؤسساتنا، ثم تقوم هي بتشكّلنا، وكيفما نشكلها تشكلنا، وكيفما كانت مؤسستنا نكون. فما الذي بقى لنا من الراحل محمد علي باشراحيل بعد ثلاثة عقود من غيابه؟!
وما الذي يمكن تذكره منه؟ وكيف يمكننا فهمه؟ وما أهمية هذا الندوة المكرسة لسيرة حياة الراحل؟ من المؤكد أن هذه مبادرة مركز عدن للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر وندوته المكرسة لدراسة سيرة حياة محمد علي باشراحيل تنطوي على أهمية مزدوجة؛ إذ هي من جهة تسلط الضوء على رمز يعد من أهم رموز عدن الوطنية الإعلامية والسياسية المدنية الحداثية، وهو لذلك جدير بالتذكير والاعتراف والإنصاف. والندوة بذلك العمل الجليل تسدي خدمة مفيدة للثقافة المحلية والعربية والإنسانية في جمع وبحث وحفظ وإشهار تحفة وثائقية رائعة كاد يطويها الإهمال والنسيان والتغييب المتعمد للأسف الشديد! التغييب الذي تسبب في ضياع بعض نصوصها وتشتتها في إضبارات وقصاصات متفرقة، ومن جهة أخرى تقدم الندوة فرصة ثمينة للباحثين والدارسين المهتمين بالتاريخ المدني الثقافي لمدينة عدن للوقوف عند حقبة تاريخية حاسمة ومفصلية في مسار تاريخ الجنوب العربي ،حقبة المواجهة والاصطدام مع قوى وأدوات وقيم الحداثة الغر بية بصيغتها ال كولونيالية في أوج انتصارها ،إذ إن واقعة الحداثة تعد بلا شك أعظم وأخطر حدث تاريخي وثقافي في حياة الشعوب العربية الإسلامية الحديثة والمعاصرة. كما تعد هذه الندوة مناسبة ممتازة للاطلاع على البدايات الأولى ليقظة الوعي الوطني الحداثي
(ما بعد الكولونيالي) في جنوب الجزيرة العربية؛ الوعي الذي تشكل في ظل مواجهة الاستعمار البريطاني، وكيفية جرى استشكال ذلك الوعي المستيقظ عند النخب المثقفة؟ ولما كان الراحل باشراحيل يعد رمزا ثقافيا مدنيا محوريا في مدينة عدن فإننا بدراسته نضع يدنا على آواليات الأدب مابعد ال كولونيالي في عدن والجنوب العربي خاصة واليمن عامة. فمحمد علي باشراحيل يعني لحظة الإعلام الحديث في عدن، كما يعني بداية تأسيس التعليم الحديث، وبدايات العمل المدني والتنظيم المهني ولحظة تأسيس النقابات المهنية، والنوادي والجمعيات الثقافية والأهلية، ومعه شهدت عدن استيقاظ الوعي السياسي وتشكيل الروابط والكيانات السياسية، ومعه بدأت الحركة النسوية التحررية في عدن وغير ذلك من عناصر وعلاقات وممارسات وبنيات وقيم ورموز الحياة الحديثة. فمتى ولد ونشاء وكيف تعلم وعمل فقيدنا الراحل محمد علي باشراحيل؟ وماذا واجه من تحديات خاصة وعامة وكيف تصدى لها؟ وكيف عاش واشتغل ودبر لقمة عيشه وعائلته؟ وماذا فعل وفكر وقال وماذا كانت اهتماماته في حياته الخاصة والعامة ؟ وماهي رهاناته الاستراتيجية المتاحة التي جمعته مع رفقا جيله في مواجهة الاستعمار والنضال من أجل نيل الحرية والاستقلال الوطني؟ وكيف كان يعي ويفهم المشهد العالمي وقواه الفاعلة وقواعد لعبته الدولية وإبعادها المحلية والقومية في فترة الحرب الحرب الباردة.

وإذا أردنا أن نقدر القيمة الحقيقة التي ينطوي عليها محمد علي باشراحيل وإرثه الإعلامي والسياسي الثقافي فلابد لنا من النظر إليه في السياق التاريخي الذي ولد ونشأ وازدهر وفكر في أرضه وفضائه. والسياق هو كامل الوسط الحضاري والثقافي والمدني في الوضعية الاجتماعية المشخصة.
ولد محمد علي باشراحيل مدينة عدن، كر يتر، حي العيدروس في يوم الجمعة الموافق 4 أبر يل 1919م وتوفى يوم الأحد الموافق 21 فبراير 1993م في صنعاء، هو صاحب ر يادات إعلامية وثقافية وإبداعية متعددة، إذ كان رائدا في الصحافة الوطنية بنشر أول صحيفة في عدن باللغتين العربية والإنجليزية صحيفة الرقيب عام 1956م ورائدا في الإعلام الإذاعي مع رفيقة دربه السيدة سعيدة بمشاركتهما في برامج إذاعة عدن منذ تأسيسها 1954م ورائدا في النشاط المدني الثقافي في مدينة عدن إذ كان مؤسسا لنادي الإصلاح العربي ونائبا لرئيس النادي في التواهي وشارك في تأسيس حلقة شوقي الأدبية وكان رائدا في تعلم وممارسة التنوير ونشر التعليم، ورائدا في ممارسة النشاط السياسي مع سالم الصافي وشيخان الحبشي ومحمد علي الجفري ورشيد الحريري عبده حمزة وغيرهم من الرعيل الأول من النخب الشبابية الوطنية الذين كان لهم الدور في تأسيس أول حزب سياسي في عدن حزب الرابطة الذي تدرج باشراحيل في عضويته من عضوية اللجنة التنفيذية إلى مركز نائب الرئيس. وفي سياق العمل السياسي الليبرالي كان باشراحيل من أوائل شباب عدن الذين تمكنوا من دخول مجلسين المجلس البلدي خلال الفترة 1958/52م والمجلس التشر يعي 1959/55م وأبلى خلال عضو يته في ذينك المجلسين بلاء ً حسنا ً من خلال اللجان العاملة (اللجنة المالية ولجنة الأراضي) وأنجز عددا ً من المكاسب للصالح العام والوثائق الرسمية ماثلة أمام الجميع وعزز أعماله من أجل الصالح العام بأن كان عضواًفي مجلس أمناء مدرسة بازرعة الخيرية الإسلامية التي جمعت بين عظمة مدرسيها
وخريجيها من الطلاب. هذا على صعيد السياق المحلي، أما السياق القومي العربي والدولي العالمي فقد كان عصر باشراحيل يعج بالصراعات المتداخلة، الحرب الباردة، حركات التحرر الوطنية والثورات الاشتراكية، اغتصاب إسرائيل لفلسطين 1948م وحرب الهند وبكستان، وصعود القومية العربية بتياراتها المختلفة ...الخ.
وهكذا يمكن القول إننا إذ نقف اليوم عند محمد علي باشراحيل، فإننا نقف أمام حقبة فاصلة في تاريخنا، وحين يجعل البشر من تاريخهم موضع تساؤل فإنهم غالبا ما يتساءلون عن مصيرهم، أو عن حاضرهم كمصير، ومهما كانت الإجابات متنوعة في صحتها أو خطئها، فإن وعيا تاريخيا يتشكل يحمل في طياته مستوي وعي البشر العام بكل جوانب حياتهم.
ومن هنا تغدو العودة إلى لحظه يقظة الوعي المستنير في عدن ليست استعادة حلم استيقظنا على زواله بل عودة إلى تاريخ قريب شكل حكاية انتقال مجتمعنا من الحالة الاستعمارية الأجنبية الى الحالة الوطنية وتداعياتها المأساوية الراهنة .
ومحمد علي باشراحيل في حياته وسلوكه وفكره وأحلامه إنما كان يؤرخ على طر يقته لتغير داهم طرأ في الأفق الروحي للعدنيين والمتصلين بهم من العرب الجنوبيين، ألا وهو ولادة طرق جديدة في التفكير والقيم والسلوك تتخذ من واقعة الحداثة في الغرب إحداثية أساسية لها.
غير أن أهمية وقيمة باشراحيل بالنسبة لنا لا تكمن في سيرة حياته الشخصية الخاصة والعامة، بل في المؤسسة التي أسسها وبقت تحمل أسمه ورسمه بعده- نقصد- صحيفة ومؤسسة الأيام الإعلامية التي أسسها في ٧ اغسطس ١٩٥٨م، وبقيت حاضرة بعد غياب مؤسسها وعميدها محمد علي باشراحيل الذي
وارى جسده الثرى وعانقت أيامه الثريا، وهذا هو الفرق بين الأشخاص والمؤسسات في كل زمان ومكان؛ الأشخاص يأتون ويذهبون أما المؤسسات فيمكنها أن تداوم الحضور وتستمر وتزدهر إذ ما وجدت من يتعهدها ويصون.
وهكذا هي المؤسسة هي نظام هي كيان هي إطار هي جسد يضم جملة من الأعضاء بينهم علاقة وهي آخير كل والكل هو أكبر من مجموع أجزاءه! المؤسسة،بوصفها كيانا أو بنية كلية ينطوي على مجموعة من العناصر والعلاقات والانساق والقواعد ووالممارسات والقيم والرموز، بغض النظر عن طبيعتها المشخصة أكانت صحيفة ، مدرسة، جامعة، جيش، دولة ...الخ بقدر ما تمنحها تمنحك، أعطها تعطيك صنها تصونك، عزها تعزك ظلها تظلك دارها تداريك، أحمها تحميك ..الخ. فكم هم أولئك الأشخاص الذين كانوا من جيل باشراحيل وربما كان لهم دورا كبيرا في زمانهم غير أهم ذهبوا ولم يتركوا أثرا يدل علىيهم يبقى ويدوم بعد غيابهم، بينما باشراحيل ترك الأيام شاهد حال ومآل تحمل أسمه وبصمته وكان لها شأن في حياة الصديق الراحل هشام أكبر أولاده الذي بلغة الأيام معه أوج ازدهارها بإدارته الرشيدة وسعة أفقه وحنكته وحلمه ورفقه وتواضعه الف رحمة ونور تَغْشَاه، ونتمنى أن يلتقط أحد الأحفاد الشعلة ويعيد إيقادها بعد أن كادت تخبو وتأفل وتنطفئ في لأسباب لا نعلمها.
وخير طريقة في حفظ وصون الامجاد لا تكمن في حفظ رماد من صنعوها من الأسلاف بل في ابقاء الشعلة التي اوقدوها ذات يوم دائمة الوهج والألق!
وتحضرني الذاكرة أنني كتبت في محنة الأيام مقالات مطولة ونشرتها في صحيفة كثيرة منها مقالي الشامل بعنوان ( الأيام والصراع من أجل الحرية) نشر في صحيفة الندى لصاحبها الصديق العزيز المثقف المحترم سامي غالب، واعاد نشره ربيب مدرسة الأيام الصحفي المتألق الصديق العزيز فتحي بن لزرق في صحيفته عدن الغد. وهذا ربما لا يعرفه أو لا يدخل باهتمام أسرة الأيام الحالية!
وعلى كل حال وجدت أن المناسبة سانحة لاستحضار بعض الأفكار مما ورد بالمقال الأنف الذكر ونحن نتذكر مؤسس الأيام وعميدها الراحل رحمة الله عليه. إذ كتبت حينها أن الأيام مؤسسة إعلامية ثقافية مدنية حديثة، اكتسبت اليوم معنى الظاهرة الاجتماعية الثقافية التي تحتاج إلى دراسة سيوسولوجية ونقد ثقافية معمقة قادرة على الإحاطة الممكنة بأبعادها وعناصرها وبنيتها وعلاقتها وأسبابها ونتائجها، إذ يصعب فهم وتفسير مشكلة "الأيام" ومأساتها المروعة بمعزل عن المشهد الكلي والسياق الاجتماعي والسياسي والأمني والثقافي والأخلاقي العام للمجتمع، وما يعيشه من أزمة بنيوية وسياسية وثقافية واقتصادية وأخلاقية خانقة. إن النظر إلى "الأيام" من حيث هي ظاهرة اجتماعية ثقافية إعلامية مدنية نوعية وفريدة، هو المدخل المنهجي المناسب لمن أراد التوفر على تفسير منطقي وفهم سليم لما أحل بها من فاجعة كارثية قلما شهد التاريخ مثيلاً لها في تاريخ الصحافة والوسائط الإعلامية. فليس هناك مثال سابق في التاريخ الحديث والمعاصر يشبه "الأيام" وما تعرضت له طوال السنوات الماضية من حرب ضروس وعنف غاشم وظلم لا حد له، ولم نعلم أو نقرأ عن (سلطة) حاكمة أو متنفذة حشدت جميع قواها وقوتها وأجهزتها التنفيذية والتشريعية والقضائية ضد صحيفة مستقلة وناشريها العزل. فما الذي يفسر ذلك العنف المادي والمعنوي الظاهر والخفي الذي شنه أمراء الحرب والنهب ضد "الأيام" وناشريها هشام وتمام باشرحيل، وذلك منذ بعيد الاجتياح العسكري الهمجي الشمالي لمدينة عدن في 7/7/1994، وحتى اللحظة، هذا العنف الذي تجلى في صور وأشكال عدة رمزية ومعنوية ومادية، لكنه تدرج في سلسلة متنامية ومتواصلة من الهجمات والمعارك اللفظية والقضائية والعسكرية، إذ أخذت (السلطات) تسدد سهامها إلى قلب وجسد "الأيام"، بينما ظلت هذه الأخيرة تواجه تلك الضربات القاتلة بإرادة مدنية وشكيمة فولاذية وصبر جميل، كان ذلك من خلال الحملات الإعلامية الجائرة التي كانت تشنها أبواق السلطات ضد "الأيام"، أو من خلال التهديدات والاستفزازات التي يتعرض لها الناشران هشام وتمام باشراحيل من خلال الاتصال والهاتف النقال ومن خلال خطابات وأحاديث ومقابلات رمز التسلط والذي عبر غير مرة عن غضبه من "الأيام"، بل وصل به الأمر إلى اتهامها بتهم لم ينزل الله بها من سلطان، كالعمالة لقوى أجنبية، أو للاستعمار، أو الانفصالية والمنطقية والمذهبية والجغرافية، وغير ذلك من التهم والنعوت التي لا ريب أنها تنطوي على شحنة عالية من العنف الرمزي والمادي ضد حقوق الإنسان الأساسية والمدنية.
وهي بذلك المثال الأبرز لمؤسسات المجتمع المدني الذي ينظم فيه الناس أنفسهم بحرية في جماعات ومؤسسات وروابط ومستويات متنوعة بهدف الضغط على السلطات السياسة من أجل تبني سياسات منسجمة مع مصالحها، وهي بذلك عكس مؤسسات القوى التقليدية المهيمنة التي تقوم على العصبية والغلبة والغنيمة، وهكذا فالمسألة ليست في إشكالية التنمية وقضاياها بالنسبه لنا، بل هي إشكالية تحول تاريخي لم ينجز، تحول من المجتمع التقليدي القائم على العصبيات والقيم البطريكية إلى المجتمع الحديث القائم على المؤسسات المدنية المستقلة التي تحكمها قيم وقواعد قانونية عقلانية عامة ومجردة تنطبق على جميع الناس بقدر متساوٍ ومتكافئ في الحقوق والوجبات والوصول إلى الفرص، بما يحفظ حرياتهم السياسية والمدنية وكرامتهم المادية والمعنوية، تجسيدا للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي ينص على "أن الناس ولدوا متساوين ويجب أن يتمتعوا بحقوق متساوية" إن مأساة "الأيام" وناشريها تكمن في كونها مؤسسة مدنية تنتمي إلى مدينة عدن الجنوبية التي تم إخضاعها من قبل القوى الشمالية التقليدية بالقوة المسلحة، وبحكم منطق القوة الحربية العصبية، التي تقسم الناس إلى (نحن) و(هم)؛ المنتصر والمهزوم، الغالب والمغلوب، القوي والضعيف، الأصل والفرع، الأصلي والهامشي، الوحدوي والانفصالي، الشعب والشرذمة، ولا تعترف بوجود مجال محايد أو مختلف أو متعدد أو ممكن للحياة خارج هاتين الدائرتين المغلقين. ومن العصبية التقليدية ينتج الاستبداد والطغيان والعنف والحرب والدمار كما نشهده اليوم في ليبيا واليمن المحكومتين بالاستبداد.
من المؤكد أن "الأيام" كانت تقوم بوظيفة ما فوق صحيفة إعلامية على الأقل بالنسبة لعدد واسع من سكان الجنوب المسلوب، كانت بمثابة الوطن الافتراضي البديل عن الوطن المنهوب، وتشبع عندهم حاجة سيكولوجية وفطرية في الإحساس بالذاتية والهوية المتخيلة، وهي بذلك كانت تقوم بوظيفة مدنية في تفريغ حالة الاحتقان والإحباط والإحساس بالقهر والحرمان، كانت تخدم على نحو غير مباشر، لاشعورياً أغراض السياسة العامة للسلطات الحاكمة في امتصاص فعال لشحنات الغضب والعنف المتراكمة في القلوب والأذهان جراء الإحساس المتزايد عند معظم الجنوبيين بصدمة الحرب والاحتلال، وانسداد الأفق والسبل الممكنة للتعبير عن الذات وإسماع الآخر صوت الذات التواقة للاعتراف. ولو أن السلطات المهيمنة أدركت أو تخيلت مدى الآثار والأضرار المباشرة وغير المباشرة، الواعية والأوعية، التي تسببت بها حينما أقدمت على إخراس وخنق صوت الجنوب المدني الحميم بتلك الطريقة العنيفة الصادمة، لو أن السلطة أخضعت قراراً مثل هذا للتمحيص والتحليل العلمي السليم لما كان لها أن ترتكب هذه الجريمة الخطيرة والمركبة في بشاعتها، بل كانت ستعمل على تشجيع وتهيئة المناخ العام الذي من شأنه استمرار وازدهار صحيفة الأيام والصحف المستقلة، وإطلاق المجال لحرية التفكير والتعبير والنشر والشفافية كوصفة سحرية لتخفيض مستوى الاحتقان وتهيئة المناخات العقلانية للتفاهم والحوار.
إن خنق "الأيام" فضلاً عما تسبب به من أضرار جسيمة لأسرة "الأيام"، قد ألحق إهانة بالغة وتسبب في إحداث جرح معنوي عميق في الذاتية الاجتماعية المجروحة منذ حرب 1994، وكان أشبه بالتحدي المستبد الذي جعلهم يبحثون في كل السبل الممكنة للتعبير عن صوتهم والتنفيس عن إحباطهم وغضبهم عبر ومن خلل الانترنت والقنوات الفضائية والمنشورات والهاتف النقال والمحدثات الشفاهية أو بعض حالات لغة الأجساد والاتصال العنيف. فهل أدركت السلطات الأضرار الفادحة التي نجمت ولا تزال بسبب غياب "الأيام" وقمع الصحف المستقلة الأخرى كصحيفة الصباح وصحيفة الوطني، وقمع الحريات الصحفية والتنكيل بالصحفيين المستقلين في الشمال والجنوب؟ وختاماً: لإن "الأيام" مؤسسة إعلامية، كتابة حروف ونصوص مرسومة على الورق، فليس بمقدور أحد على وجه الأرض إخفاؤها أو محوها، فهي موجودة في المكتبات والمنازل والمواقع والشبكات والأقمار الصناعية لغة عالمية، ورمزاً مدنيا عدنيا جنوبيا، والرموز خالدة لا تموت، وضربات السيف تمحى، أما ضربات القلم فهي آثار خالدة تؤكد حضورها الدائم في عالم المادة الجامدة، وبإمكان "الأيام" اليوم أن تفتخر وتقول: لقد ولدت ونميت وازدهرت وصرت مؤسسة مدنية حديثة، سيذهب الطغاة وكلابهم في ليل التاريخ، أما "الأيام" فستظل نوارة المكان والزمان، فهي ليست موجودة بعد في أيما مكان، بل هي موجودة أخيراً في كل مكان" ينظر ،عدن الغد ٢٠١١/٣/٢٢م. وغدا نلتقي في فندق كورال ولازال لدي ما أقوله في رهانات باشراحيل الأيام. ودمتم بخير وسلام.