السبت - 22 يونيو 2019 - الساعة 11:54 م
لم أعد اشعر برغبة في الكتابة كثيرا حول الشأن السياسي الذي وصلنا اليه اليوم في الجنوب والشمال معا وأفضل ان اهدر وقتي وجهدي في قراءة كتب التاريخ والروايات والأدب العربي. ففيهما أثر من عبق الماضي الجميل بعيداً عن أعباء وصراعات وهموم الحاضر الذي نعيشه . وفي جعبتي بعض الآراء السياسية لكنني في الغالب ارى أن أحتفظ بها لنفسي. فالسياسة انما هي في الواقع لا تعدوا ان تكون اكثر من لعبة قذرة تمارس فيها الرذيلة خلف أستار الفضيلة.. يجري من خلالها المتاجرة بأحلام الجماهير لمصلحة مجموعة من الفاسدين و المنافقين والدجالين والانتهازيين و الشعب غالبا يصدق و ينجر خلف هذه اللعبة. لكن هناك بعض الظروف التي دفعتني للحديث و ربما سأتحدث أكثر مستقبلا لممارسة نوع من التنوير تجاه هذه الآلاعيب التي تقودنا نحو طريق مسدود و حتى نوجد مساحة للعقل و الإعتدال بعيدا عن التطرف. قد لا أملك لكم الأجابات لكنني أملك بعض الآراء التي استلهمتها من الواقع السياسي الذي نعيشه
إن كثيرا من الناس يحب أن يصنف الآخرين و يضعهم في قالب جاهز من الاحكام المسبقة ثم يبنى مواقفه و انطباعاته الخاصة عن تلك الجماعة التي صنفها فيبدأ في إطلاق أحكامه و استنتاجاته جملة واحدة عليهم جميعا دون تمييز. فهؤلاء انفصاليون متزمتون رأيهم معروف لا داعي للنقاش معهم و هؤلاء وحدويون فاسدون فلا داعي لسماع رأيهم. و يبدأ كل منهم يشد في اتجاه و ينطوي على نفسه في زاويته الفكرية الضيقة فلا يترك حوله متسعا للصلح و حسن النية والحوار والمرونة المتبادلة لبحث سبل الخروج من المأزق السياسي الذي يعيشه الشعب في الشمال والجنوب على حدٍ سواء ..
و من ثم يُحشر من يسعى للمودة و الإصلاح مع أحد الطرفين حشرا لا مجال فيه للتفاهم معه، إما أن تكون باحثاً مهوسا عن الوحدة و لو كانت بقوة السلاح رغما عن الآخرين دون النظر لرغباتهم و حقوقهم لانهم من وجهة نظرك مجموعة من المارقيين الذين يجب تأديبهم وفرض الوصاية عليهم . واما ان تكون طرف آخر لا يتنازل نهائيا عن ما يسمى انفصالا او استقلالا أو فك ارتباط مستعدا لأن يذهب الى آخر العالم بحثا عن اعتراف مقدس بدلا من حل الأمور مع الطرف الآخر المعنى بالتفاوض وفك الشراكة معه من اقرب الطرق..
و إن حدث حوار مع هكذا تزمت و نفور فلن تعدو الحوارات ان تكون سوى مضيعة للوقت و محلبة يحلب فيها السياسيون الأموال و المساعدات باسم من يدعون تمثيلهم. ما فائدة الحوار إن لم يكن هناك نوع من المرونة بحيث يقبل الوحدوي طرح حل الدولتين، كما يقبل الطرف الآخر وضع حل الوحدة على الطاولة. فإن كانت هناك جدية فمن الممكن التوصل لحل مناسب في مرحلة متقدمة، كالقبول بنوع من الاتحاد الفيدرالي المؤقت و الإقرار بحق تقرير المصير باستفتاء عام للجماهير التي تطالب بالإنفصال بعد مدة محددة من الزمن ربما 5 سنوات مثلا كما حدث في جنوب السودان.
المشكلة أن الكثيرين لا يتركون صوتا مسموعا للعقل فيعيشون على تزمتهم في مواقفهم العدمية المتعصبة، يجب أن نفهم أنه في بعض الأحيان نضطر ان تأخذ خطوة إلى الوراء حتى نتمكن من القفز قفزة كبيرة للأمام. ما يظهر كتراجع قد يكون هو الحل و ذلك بإعطاء من يطالب بالوحدة فرصة لجعل هذا الخيار جذابا في مدة زمينة معينة لإقناع الطرف الآخر بالعدول عن فكرة الانفصال، و بعدها يتم استفتاء باشراف دولي و باتفاق رسمي لتحديد تقرير المصير و من ثم تحقيق رغبة شعب الجنوب إما بالاستقلال أو العودة لأحضان الوحدة.
في مقالات ومنشورات سابقة كنت اتطرق من خلالها الى خيبة الأمل في النخبة السياسية والاجتماعية وربما الثقافية ايضا التي تضع مصالحها الشخصية فوق المصلحة العلياء للشعب . كنت أكيل النقد لسياسات قادة بعض فصائل الحراك الجنوبي حديثة النشأة و استنهض جماهير ألشعب للتفكر في مستقبلهم و أخذ حقوقهم من هؤلاء القادة المتلاعبين بمصيرهم وارادتهم .
وما أردته من.وراء ذك بكل ببساطة أن يعرف الشعب حقوقه ويبصر تلاعب بعض القادة والمكونات في مصيره و مستقبله، هذا المستقبل الذي يجب أن نثبت جدارتنا و مسؤليتنا في تحقيق الأفضل لنا بإيقاف تجاوزات هولاء القادة السياسيين العابثين و البحث عن رؤية واضحة تعبرعن وجهتنا و كيفية تحقيق أهدافنا بعيداً عن عبث العابثين. و ليس الأمر رهن الإعتراف فقط لكن هناك الكثير من الممكن انجازه بغض النظر عن الاعتراف الدولي، كما أن الإعتراف الدولي بدولتنا من الممكن أن يتم البحث عنه بطرق أكثر جدية و جراءة في حينه..اي بعد استعادة الدولة..
ما حدث في الربع قرن الآخير من أضرار طالت شعب الجنوب بإسم الوحدة لا يمكن محوه بسهولة من ذاكرة الجنوبيون و من الصعب جدا أن نطالب بأن تعود المياه لمجاريها بعد ان حدث ماحدث لنا على ايدي الشماليون و نسلم مصيرنا مرة اخرى لإخطبوط الوحدة معهم مهما كانت النوايا طيبة. كل ما أطلبه من الشعب شمالا و جنوباً أن يفهموا أولا ما يحيط بهم جميعا من تحديات و مخاطر لا تفرق بين جنوبي وشمالي . و أن يتفقوا على التعايش و التعاون المشترك حيث يمد كل منهم يده إلى أخيه لينهض أو على الأقل لا يعيق أحدهم نهوض الآخر مهما كان شكل الحل المناسب للمرحلة.
كما أطلب منهم أن نتحاور في مصيرنا المشترك للخروج مما نحن فيه بعيدا عن وساطة الغرباء، فالسمعة السيئة تؤثر علينا جميعا و شبابنا تموت أحلامهم كل يوم باختلاف العلم السياسي الذي يحمله كل منهم وباختلاف انتمائتنا كما أطالبهم بأن يتحاوروا دون شروط مسبقة و تفكير متحجر و غير مرن وإن لم يكن ممكنا أن نعيش في ظل دولة فيدرالية واحدة ولو لفترة.مؤقتة فلنحقق على أقل تقدير التعايش المشترك في بعض جوانب الحياة بيننا كشعبين شقيقين وجارين بينهما علائق تاريخية مشتركة..