مقالات وكتابات


السبت - 09 ديسمبر 2017 - الساعة 09:38 م

كُتب بواسطة : احمد السلامي - ارشيف الكاتب


يُحكى أن مدينة صغيرة سكانها من أغبياء .. في طريق تلك المدينة ظهرت حفرة يسقط فيها الكثير من الناس كل مساء  فتتكسر عظامهم ويصعب نقلهم إلى مستشفى المدين البعيد .. بسبب تزايد المطالبة بحل هذه المعضلة فوضوا ثلاثة أشخاص من الشعب كلجنة ثلاثية تتولوا وضع الحلول لهذه المشكلة العويصة .. اجتمع الثلاثة برئاسة أكبرهم سناً ، تكلم الأول وأقترح تواجد سيارة إسعاف بالقرب من الحفرة لنقل من يقع فيها إلى المستشفى فوراً . قاطعه الثاني وقال : لا تستطيع سيارة الإسعاف الإفاء بالغرض بشكل أمثل ، ولهذا اقترح بناء مستشفى بجانب الحفرة ويتم نقل المصابين إليه مباشرة .

اعترض رئيس اللجنة وقال : هذا الحل سيُكلف أموال كثيرة ووقت طويل ونحن لازم نضع حل سريع لهذه القضية.

قال الاثنان : ما هو ؟

رد عليهما رئيس اللجنة  : نردم الحفرة .

قال الاثنان باندهاش : وبعدين ؟

رد عليهما : نحفرها بالقرب من مستشفى المدينة ، وهنا نوفر تكاليف السيارة وبناء المستشفى الجديد .

وافقت اللجنة وشرعت على طول بتنفيذ قرارها الجنوني .. بعد عدة أسابيع انتشرت إشاعة عن وجود  كنز من المجوهرات والذهب والحلي والألماس في أرضية المدينة  فتكاثرت الحفر في أكوام التراب ، وفتحت أبواب جديدة للمستشفى لاستقبال الحالات ونادت المواطنين للاحتشاد والتبرع بالمال وجمع الجبايات لاستكمال مشروعها الجنوني المتمثل بردم الحفر وحفرها بجانب المستشفى .

احتشد المواطنون وفوضوا رئيس اللجنة بتوسيع عضويتها والانتقال بها إلى شكل جديد يسمى مجلس الحفرة وله رئيس ونائب وهيئة رئاسة .

رفع المجلس شعار "من ليس معنا فهو ضدنا " وخوّن كل من يخالفه رأي المجلس ، ونصب العداء وأقام القطيعة مع إدارة عُمدة المدينة الشرعي الذي يدير شؤونها  ويحل مشاكلها  في ظروف صعبة جداً .

في أول بيان له أكد مجلس الحفرة  على التصعيد من اجل الإطاحة بإدارة العمدة واصفاً إياها بالفاسدة والعميلة التي تعمل على عودة المواطن إلى باب الحفرة بعد أن قدمت الكثير من الشهداء الجرحى . وأكد إن مجلس الحفرة الموقر يعمل على تشكيل فروع له في كل أحياء المدينة وأزقتها كما انه سيشكل جمعية استهلاكية مختارة من بين أوساط الشعب .

 سارع أكثر الناس غباء إلى تأييد خطوات المجلس الجنونية في النهار  وانشغلوا بالاتصالات والمزايدات من اجل الوصول إلى عضوية الجمعية الاستهلاكية ، وفي المساء ينشغلوا بالبحث عن الكنز وحفر مزيد من الحفر التي تعيق وتعطل استمرار الخدمات الضرورية ، تزامناً مع انتشار أعمال الفوضى المخلة بالأمن والسكينة بشكل أوسع .

حاولت إدارة العمدة إقناع مجلس الحفرة بالعمل معها لإصلاح الأوضاع المخربة .. فرفض المجلس وخرج مناصريه للتنديد بالعمدة وإدارته وانزلوا بالقوة أعلام المدينة من على المرافق الإدارية والمدارس ورفعوا بدلاً عنها أعلام مجلس الحفرة وصور لقائد المجلس . استمر الحال على هذا المنوال ، مهرجانات .. خطابات رنانة .. بيانات نارية .. علم يطلع وعلم ينزل ، إحراق إطارات .. منع أي فعاليات لمجاميع أخرى ووصفهم بالعملاء ..بينما الحُفر تتسع وتزداد عدداً .    

 وفي ليلة ظلماء خرج الناس للبحث عن الكنز فوقعوا كلهم داخل الحفر المليونية ، لم يسمع احد باستغاثتهم إلا في الصباح حيث هب بعض من لم يخرج معهم لنجدتهم ، فلم يستطيعوا إخراجهم ! هرعوا إلى العُمدة لإبلاغه لكنهم وجدوه مضرجاً بدمائه وليس عنده احد ، فقد غادروا من كانوا معه بعد أن سرقوا أموال إدارته وقتلوه . نفس الطريق سلكه معظم أعضاء مجلس الحفرة والجمعية الاستهلاكية ، اخذوا  كل الأموال وتجمعوا عند آخر حفرة شرق المدينة ، وقبل المغادرة نشب خلاف شديد وعراك جنوني بالأيدي بين رئيس المجلس ونائبه تمكن الأخير من دفع الرئيس إلى داخل الحفرة وهربوا جميعاً مع عائلاتهم إلى المدن المجاورة .

مجموعة قليلة من كبار السن والنساء والأطفال ظلوا لعدة أيام يقدموا لنزلاء الحفر ما تيسر من الأكل والتمر والماء ، إلى أن جاء تجار كبير  من مدينة مجاورة وعرض على نزلاء الحفر عرضاً مغرياً جداً : إخراجهم من الحفر وردمها بإحكام ، إعادة بناء المدينة على أسس حديثة وتنميتها وإدارتها ، توفير الأشغال والخدمات لجميع أفراد الشعب وتثبيت الأمن والاستقرار وتوفير السلع الاستهلاكية وتطوير التعليم والصحة .. بشرط واحد فقط ! أن لا يحكموا ولا يطالبوا بأي حقوق مدنية ويمتنعوا عن المظاهرات والمسيرات والإضرابات والتصعيد ، هم  وأبنائهم وأحفادهم لمدة مئة سنة من الآن .. صعق الناس من هذا الشرط وتسألوا : لماذا كل هذا الظلم ؟! رد عليهم التاجر : هذا ليس ظلم .. هذا عقاب لأنكم لم تخلصوا وتحسنوا خدمة مدينتكم الطيبة ذات التاريخ العريق والموقع الجغرافي النادر ، ويجب أن تعترفوا ، أن غباءكم هو الذي أوصلكم إلى هذا الوضع المؤلم .

 .. اضطر الناس الموافقة على العرض ولم يكن لديهم خيار آخر غيره .. إما الخروج أو الموت جوعاً .. لكنهم طلبوا أن يفوضوا لجنة سموها "لجنة الخروج المشرف" لتوقيع الاتفاقية .

قهقه التاجر بصوت عالي وكاد يسقط على الأرض وهو يقول : إلا اللجان والمجالس ممنوع منعاً باتاً تشكيلها أو الإعلان عنها .. كل واحد منكم نخرجه من الحفرة يوقع في السجل الخاص ويستلم سلة إغاثة ومبلغ من المال ويذهب إلى بيته بكل هدوء ورجالي سيأتون إليكم بعد ما ننتهي من ردم الحفر خلال يومين  .  

أوفى التاجر بوعده وعمّر المدينة وعم فيها الرخاء والخير وازدهار ، وانقضت نصف المدة ، خمسون سنة ، وتبقى النصف الثاني وهو الأهم .