مقالات وكتابات


الخميس - 20 فبراير 2020 - الساعة 11:28 م

كُتب بواسطة : محمد البجح - ارشيف الكاتب



قيل قديما إن الثورات بخطط لها العباقره وينفذها الشجعان ويستفيد منها الانتهازيين الجبناء ولا نعتقد إن مثل هذا القول يحتاج إلى دليل تاريخي ذلك أن أغلب الثورات التي عرفها التاريخ أكدت مثل هذا القول بل وأكثر من ذلك جعلت منه بمثابة القاعده والقانون لمسار الحركه الثوريه عبر تاريخها الطويل.

ولقد جاءت الثورات العربيه الأخيره ومنها الثوره التحرريه الجنوبيه لتقدّم النموذج الحيّ لمثل ذلك المنطق اللا منطقي في تجسيد حركة الجدل الداخلي بين صنّاع الثوره ومفجّريها من جهه والمستفيدين منها أو الراكبين عليها من جهة ثانيه...

إن الإنتهازيين والوصوليين ومن لم نرى لهم أثرا أو بصمه أو إسهاما في ساحات المعارك والصراع المرير مع المحتلين الطغاه والجلادين في لحظات المواجهه التي تفترض التضحيه والعطاء والمخاطره هم أنفسهم الذين سوف تغصّ بهم ميادين السمسره والسطو على جهود وتضحيات الثائرين الحقيقيين الذين حرروا  الوطن وقضوا على رموز الفساد والاستبداد وهم ذاتهم الذين سوف يصطفون تباعا ضمن طابور المستفيدين من الثوره..

والأغرب من ذلك هو استغلال حركة الجماهير لشرعنة المكاسب الميدانيه لصالح الانتهازيين في حرب المواقع وقاموا بتوظّف وسائل الإعلام والدعايه لتلميع صور المتصدّرين لمواقع أخذ القرار بداية من المصنع وصولا إلى مؤسسات الحكم وتقديم البديل التسويقي الجديد للمرحله المقبله من خلال وجوه لم تشارك في صنع الثورة مطلقا ولم يكن لها أيّ إسهام يذكر في مختلف مراحل العمل الثوري. وهكذا تولد تراجيديا الثوره فمن رحم العمل الثوري الحقيقي ومن عمق معاناة الجماهير وتضحياتهم تولد التراجيدي القائمه بحيث يتم حذف مرحله كأمله من مراحل الفعل الثوري والتي تسبق عادة مرحلة الانتقال الديمقراطي... وإنها مرحلة المحاسبه أو العداله الانتقاليه التي يتم من خلالها طرد بقايا النظام السابق وتطهير جميع مؤسسات الدوله من أدوات القهر والفساد وتحييد أصحاب النفوذ المالي ومنعهم من استعمال إمكاناتهم لصالح استمرار النظام شكلا ومضمونا عبر وجوه جديده من حيث الشكل وقديمه من حيث المضمون والبرامج والتوجهات...

إن الحاصل الطبيعي والمنطقي لتفويض يقفز على مرحلة العداله الانتقاليه سوف يتحكّم فيها بالنهايه عنصري المال والإعلام وما هذان العنصران إلاّ غنائم تكتيك حرب المواقع التي خاضها الانتهازيين بنجاح وبشكل وجدت فيه الجماهير نفسها ضمن إطار المربّع الأول وكأنها لم تتحرّك مطلقا أو أن تحرّكها قد كان يتراوح في المكان نفسه...

وهنا نستذكر قول أحد منظّري الثوره الفرنسيه الذين أكلتهم الثوره ذاتها انطلاقا من هذه المعادله التراجيديه في صراع الثوره مع أعدائها إذ يقول روبيسبيير : إن الخونه موجودون هنا مختبئون تحت مظهرهم الكاذب والزائف.. إنهم سيتهمون من يوجه لهم الاتهامات وسيضاعفون خداعهم ليضربوا وجه الحقيقه... قال روبسبيير ذلك بعد أن كان شاهدا وشهيدا على سقوط رموز الثوره الفرنسيه وقادتها ومفجّريها الواحد تلو الآخر بداية من هيبير وشومات مرورا بدانتون وديمولان وصولا إلى مارا وسان غوست.

الحقيقة إذن مرّه ومرارتها تزيد من انحسار خطّ الثورة حتى أننا أصبحنا لا نرى أثرا لأؤلئك المناضلين الأبطال الذين صنعوا أمجاد من حملتهم المنصات بعد الثورة فالثائرون الحقيقيون اختفوا عن الأنظار أو ربما تمت إزاحتهم وإخفاءهم بفعل فاعل وتغييبهم عمدا باستعمال وسائل الإعلام القديمه المتجدده التي كان شعاراها ولازال : مات الملك عاش الملك.

إنه من المؤسف حقّا تشويه الثوره وكأن من خاض غمار التصدّي لنظام الاحتلال وأذنابه ومشروعه قبل ذلك التاريخ لم يكن قد أسهم في بناء المراحل الأولى لبداية نهايه نظام الاحتلال وهنا نتذكّر بفخر واعتزاز وتقدير شهداء الثوره الجنوبيه الذين سقطوا على طريق الحريه والكرامه.. أو لأؤلئك الذين وضعوا رؤوسهم على أكفّهم وخرجوا بصدور عاريه متحدّين رصاص القهر والظلم والاستبداد طالبين الخلاص من الاحتلال وعصابته الحاكمه... في وقت لم يكن أحد من الثورجيون الجدد ثوّار ما بعد الثوره قد أدرك بعد أن نظام الاحتلال يحتضر...

 وأنّنا نأسف جدا بان الشهداء الأبطال الذين أسهموا بدمائهم الطاهره في تحرير الوطن يتم استثنائهم من قائمة شهداء الثوره عند وصول الانتهازيين وسماسرة السياسه إلى مواقع القرار...

أنها مأساة حقيقيه تكشف عمق الصراع القائم بين خطّين متوازيين لا يلتقيان أبدا خطّ النضال والثوار وخطّ الانتهازيين والوصوليين... ولعلّ أهمّ تجليات المهزله هو تنصيب بعض القيادات الذين ساندوا نظام الاحتلال كما فعل الثورجيون الجدد مع رموز الظلم والاستبداد في تاريخنا الوطني... فنجدهم يمتدحون من كانوا بالأمس مع نظام الاحتلال ويعددون مناقبهم وفتوحاتهم في وقت يحرم فيه شهداء الثوره الجنوبيه من مجرّد التذكير بهم أو ألمطالبه بحقوقهم...

أنظروا من تصدّر موقع القرار بداية الثوره الجنوبيه وبعد الحرب الاخيره وستعلمون أن الثوره سرقت حينما أصبح بعض المنتمين للأحزاب اليمنيه أوصياء على الثوره...

والأكثر من هذا وذاك وأخطر من هذا وذاك لم تصل الثورة إلى مواقع القرار الرئيسية في الإدارات الحيوية إذ بقي  بعض مدعين التفويض على حالهم يصطادون الولاءات ويتصيدون صراع القوى على الساحة ليحددوا مواقعهم مع الطرف الفائز وبذلك تحقّقت استمرارية النظام السابق عبر حلقات الإدارات المركزية والجهوريه التي لم يطرأ عليها أي تغيير جذري يذكر  حتى ألان...

إننا نرى نفس السيناريو  السابق يتكرر اليوم على استبعاد الثوّار الحقيقيون ليحلّ الانتهازيون محلهم ويملئوا الفراغات التي خلفها الثوار ...

 

فحينما قرر الثوار الخروج للشوارع من أجل كرامتهم وحريتهم المسلوبه من نظام الاحتلال أصدرت بعض الأحزاب بيانا تعلن فيه عدم مشاركتها في المظاهرات وبعد نجاح الثوره ووصولها إلى مرحلة متقدّمه ترجّح  سقوط نظام الاحتلال خرجت هذه الأحزاب الذين رفضوا المشاركه بالمظاهرات في الأمس القريب ليتصدروا صفوف الراكبين على الثوره...

أما صنّاع الثوره الحقيقيين فقد تمّ استبعادهم تماما من المشهد وهكذا تبرز ملامح ألصوره النموذجيه للركوب على الثوره وهي ألصوره التي تكررت في بعض الثورات بأشكال مختلفه ووجوه متعدده ولكن تحت سقف حقيقه واحده مفادها إن الانتهازيون هم دائما المستفيدون...

فبعد هذا كله... ألا يحقّ لنا أن نقول إن الانتهازيين قد سرقوا ثورتنا؟؟ ألا يحقّ للشهداء  أن يعيدوا كتابة وصاياهم بدمائهم الطاهرة محذّرين الأجيال الثائرة في المستقبل القريب والبعيد من أمثال أولائك الانتهازيين؟؟

أليس من الضروري والحالة تلك أن نكرر ونعيد قول شهيد الثورة الفرنسية دانتون الذي صرخ بأعلى صوته وهو يساق إلى مقصلة الإعدام : لا تنسوا أن ترفعوا رأسي ليتفرّج عليه الناس إنه مشهد يستحقّ الفرجة حقا...