حوارات وتحقيقات

الأربعاء - 19 يناير 2022 - الساعة 05:58 م بتوقيت اليمن ،،،

الوطن العدنية/كتب/عوض أحمد العلقمي


لن أتحدث الليلة عن ولائم الطعام ومجامع القبائل وصناعة المخادر ؛ لأن هذا الجانب قد أشرت إليه في حلقة سابقة ، نشرتها في الثامن والعشرين من فبراير  2021م  تحت عنوان : من ملف الذكريات .                     
لكنني سوف أسلط الضوء على أمور أخرى من طقوس الزواج التقليدية ، من ذلك أنهم بعد أن يكمل أهل العروس المهر المتفق عليه  ؛  يذهبون إلى أهل العروسة ويتفقون على موعد محدد يتم فيه العقد ، وفي الموعد المحدد  ينتدب أهل العروس مجموعة من الرجال ، الذين تربطهم قرابة بعائلتي العروس والعروسة ، لايقلون عن خمسة ولايزيدون عن عشرة ، يكون اثنان منهم يحملان تفويضا شفهيا من ولي أمر العروس وكذلك من ولي أمر العروسة باكتتاب عقد الزواج من المأذون المختص بذلك ، وإذا ما أنجزوا المهمة بنجاح ، عادوا فرحين يطلقون الأعيرة النارية  من بندقياتهم ، وينشدون الزوامل حتى يصلوا  إلى منزل أهل العروس ، من تلك الزوامل والأهازيج ، قولهم :
ننبل حسينات المجاري ** نطرح بها كم من قتيل باروتها  كالبرق   يشلي ** واصوابها تشفي العليل
فيقوم الأخير باستقبالهم بإطلاق الأعيرة النارية ، وذبح الذبائح لإطعام فريق العقادة ومن حضر معهم . وهنا يتم التواصل بين أهل العروس وأهل العروسة عبر الوسيط الذي يقوم بالإشراف على مشروع الزواج بين العائلتين منذ الخطبة إلى أن تصل العروسة إلى منزل العروس ، فيتفق الطرفان على موعد الزفاف . في الوقت مابين العقد والزفاف ، يقوم أهل العروس بحجز جمل مدرب على نقل العرائس ، يعرف  بالقوة والرسوخ  وعدم التأثر أو الانزعاج من هدير الجواحل والمرافع والطبول ، وكذلك أصوات قوارح البندقية وإيقاع المزامير وزوامل الرجال وزغاريد النساء في أثناء زف العروسة إلى منزل العروس . كذلك يقوم أهل العروس بالذهاب إلى المختصين بصناعة هوادج العرائس لاستئجار أو شراء هودج جيد وشيء من الزينة التي توضع على امحنية (جمل نقل العروسة) . امحنية :  هو اسم معرف بأداة التعريف الحميرية ( أم ) يطلق على الجمل بعد أن يوضع عليه هودج العروسة ويزين بالزينة التي تليق بها ،  يقرأ من حروفه الدلالة على الحنية والحنان ، والحب ، والتفاؤل بمستقبل يجمع بين العروسين بالود والعطف والبنين  . 
   أعزائي القراء لعل أحدكم يظن أنني أصف لكم هذه المشاهد التراثية من خلال اطلاعي على كتب التراث ، كلا ليس الأمر كذلك بل أصف لكم هذه المشاهد من خلال ماشاهدته بناظري وأنا لما أكمل بعد الصف الأول الابتدائي ، إذ كنت وبمعيتي تلاميذ الصف الأول في مقصورة جوبح بالمضاربة ، عند الساعة التاسعة صباحا تقريبا ، والمعلم يلقننا بعض الأحرف العربية ، تارة يطلب منا حفظها وأخرى كتابتها ، وإذا بنا نسمع أصوات الطبول وقوارح البندقية  وإيقاع المزامير وزغاريد النساء وعلعلة الرجال ، فأدرك المعلم أننا منشغلون عنه ،  عندها طلب منا أن نخرج لمشاهدة التجاوى ، والتجاوى : اسم يطلق على الحنية وكل من حولها ،  أو وكل من يرافقها من منزل أهل العروسة إلى منزل أهل العروس ، من الذكور والإناث صغارا وكبارا  ،  حدقت في تلك اللحظات بناظري نحو ذلك المنظر البديع ، وإذا بالهودج يتمايل يمنة ويسرة ، ودخان كثيف ينبعث من الأسفل إلى الأعلى يكاد يشوش علي رؤية الهودج ، وتظاهرة ضخمة على شكل دائرة تحيط بالهودج ، وكأنها ، في كثرتها وازدحامها ، النحل التي تحيط بالملكة في أثناء مغادرتها ؛ لتقيم في مكان غير مكانها السابق ، ولما اقتربت التجاوى رأيت دائرة سميكة من الإناث المتزينات بكل مايملكنه من الزينة ، يحطن بالحنية ، ومعظمهن يحملن مباخر ينبعث منهن الدخان الذي يبادر إلى أنفك برائحته العطرة ، ثم رأيت حزاما بشريا آخر ، إلا أنه هذه المرة من الذكور ، يحيط بالحزام النسوي الذي يحيط بالحنية وعلى أكتافهم بندقياتهم الموجهة إلى السماء ، ينبعث من أفواهها  دخانا أيضا ،  لكنك تشتم منه هذه المرة  رائحة البارود التي تمدك بمعنوية الرجولة وعنفوان الفرسان ، بقيت أعيد البصر كرة بعد كرة نحو الحنية ، وإذا بالسائس يقودها ببطئ من خلال يده الممسكة بحبل الزمام ، أما الجمل فيمشي بخطى واثقة ، ورأسه مرفوع ، يتمايل بشيء من الاستعلاء ، تقرأ من خطواته وتمايله كبرياء العربي الأصيل وأهوال الصحراء ، وصلت الحنية إلى أمام منزل أهل العروس ، الذي لايبعد عن فصلنا الدراسي إلا بعشرات الأمتار ، نظرت إلى الجمل إذ أوقفه السائس ، ثم طلب منه أن يبرك ، فبرك بشيء من الهدوء والرفق ، وكأنه أكثر من البشر حرصا على سلامة العروسة ومرافقاتها ، بعد وقت من البرع والرقص حول الجمل وهو بارك ، فتح باب الهودج ، ثم نزلن امرديات ؛ وأعني بالرديات المرافقتين للعروسة داخل الهودج ، ثم أنزلن العروسة ، وقمن باحتضانها ، واحدة من اليمين والأخرى من الشمال ، يمشين بها نحو منزل العروس الذي مازال يبعد حوالي مائة متر تقريبا ، استبقن العروسة والرديتين في هذه الأثناء اثنتين من النساء القويات  ، تضع كل واحدة منهن في رجلها اليمين خمسة خلاخيل ، ثم يرزحن بأرجلهن على الأرض بقوة  وخاصة الرجل اليمنى المحملة بالخلاخيل لتحدث شيئا من الإيقاع المطرب ، يتقابلن ثم يمسكن بأيديهن ويرقصن أمام العروسة حتى يصلن بها إلى باب منزل العروس . مازالت تلك الطقوس التراثية الجميلة عالقة في ذهني مع أنني شاهدتها مرة كانت الأولى والأخيرة ؛ لذا فقد شكرت الله حينها أن سنحت لي الفرصة أن أرى تراث الآباء والأجداد العظيم ماثلا أمامي ولو لمرة واحدة .......